أم تقص قصة طفلها فتقول ...
قبلَ سنة كان ابني الصَّغيرُ في الخامسة من العُمر ، وكنا حديثي عهد بجيران في بنائنا ، وكان لهم طفلٌ في نحو سنِّ ولدي ، فطلبوا منه الدخولَ عندهم ليلعبَ مع ابنهم ، استجبتُ لطلبهم ه، وسمحتُ لأحمدَ باللعب عندهم ، وأوصيتُه ببعض الأمور ؛ خشيةَ أن يسبِّبَ لهم إزعاجًا ما ، وكان مما أوصيتُه به : أن يلعبَ بهدوء بلا ضَجيج ، وألاَّ يطلبَ منهم شيئًا ، ولا يأكلَ عندهم طعامًا .
وفي أحد الأيام كان أحمدُ يلعب في دارهم ، وحانَ وقت الغداء ، ووُضعت المائدة ، ودُعي ليُشاركَهُم الطعام ، فاعتذرَ منهم بأدب ، وحينما ألحُّوا عليه وأكثَروا ، صارحَهُم بالأمر قائلاً : أمي لا تسمَحُ لي ، فقال له جارُنا مازحًا : إن أمَّكَ لا تراك الآنَ ؟
فأجابه أحمـدُ بثقة ويقين : لكنَّ الله يَراني .
في صباح اليوم التالي قصَّت عليَّ جارتي الخبر ، تملؤها السعادةُ والدهشةُ معًا من موقف رفيق طفلها الجديد !
أجل ، إن الأطفالَ كالأرض الخِصْبَة ، إذا أُلقيَت فيها البذورُ الصالحة أنبتت نباتًا حَسَنًا ، وأخرجَت ثمرًا يانعًا ، وإذا تُركَت وأُهملَت نبتت فيها الأشواكُ القبيحة المؤذية .
والتربيةُ السليمةُ تبدأ من لحظة قُدوم الطفل إلى الدنيا ؛ فهو كالإسفَنجَة ، يمتصُّ كل ما يمرُّ به ، بلا تمييز بين غثٍّ وسَمين ، ونافع وضار ، وهو يتلقَّى ما يدورُ حوله ، ولو كان في ظاهره مشغولاً بألعابه وعالمه الخاصِّ ؛ لذلك كان أهمَّ وأَولى ما يجبُ أن يُزرعَ في نفس الطفل : محبةُ الله ، ومراقبتُه في السرِّ والعَلَن .
ومن المواقف الطَّريفة التي تدلُّ على ذلك ، أنني في بعض الأحيان كنت أتجاذبُ مع زوجي الحديثَ عن إخواننا المسلمينَ في فلسطين ، وما يتعرَّضون له من إيذاء وظلم من اليهود أعداء الحقِّ والخير لعنَهُم الله ، وبدعم من أعوانهم النصارى أخزاهُم الله ، وفي أثناء هذه الأحاديث لم نكن نُعير انتباهَنا لغلامنا الصغير ، نظنُّه مشغولاً عنا بألعابه وأشيائه .
وذاتَ يوم كنتُ أُصغي إلى تلاوة للقرآن الكريم من المذياع ، وفرخي الصغيرُ يلعب بعيدًا عني ، في أحد أركان الغُرفة ، كان مُنهَمكًا بصُنع بيت من المكعَّبات ، وكان حينها ابنَ ثلاث سنينَ ونصف ، وتلا القارئُ فيما تلا قولَه تعالى : { وقالت اليهودُ والنصارى نحنُ أبناءُ الله وأحبَّاؤُه } ،
فإذا بأحمدَ ينتفضُ ويصرخ بغضَب : كذبوا كذبوا !!
ثم التفتَ إليَّ وقال مُستنكرًا : سمعتِ يا أمي ؟! اليهودُ والنصارى يقولون : إنهم أبناءُ الله وأحبَّاؤُه ، كذبوا ، هم أعداءُ الله ، أليس كذلك ؟!
لم أُجبه ، فقد عقَدَت الدهشةُ لساني ، وأدرَكتُ أن أطفالنا يملكونَ من القُدُرات ويَعقلونَ من المعاني ما لا نتصوَّرُه ،
وما علينا إلاَّ أن نقدِّرَ ذلك حقَّ التقدير ، ونوليَه العنايةَ اللازمة ، وان نكونَ حذرين في تربيتنا لهم ، وسلوكنا معهم ، فلا يسمعونَ منا ولا يرَونَ إلا ما يُرضي الله سبحانه .