ومن منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " منزلة المحبة :
وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون . وإليها شخص العاملون . وإلى علمها شمر السابقون . وعليها تفانى المحبون . وبروح نسيمها تروح العابدون . فهي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وقرة العيون . وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات . والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات . والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام . واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام .
وهي روح الإيمان والأعمال ، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه . تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها . وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها . وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها . وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب . وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب .
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة . إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب . وقد قضى الله - يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة - : أن المرء مع من أحب . فيا لها من نعمة على المحبين سابغة .
تالله لقد سبق القوم السعاة ، وهم على ظهور الفرش نائمون . وقد تقدموا الركب بمراحل ، وهم في سيرهم واقفون .
من لي بمثل سيرك المدلل *** تمشي رويدا وتجي في الأول
أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم : حي على الفلاح . وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم ، وكان بذلهم بالرضا والسماح . وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح . تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم . وشكروا مولاهم على ما أعطاهم . وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح .
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد *** حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم *** إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن *** نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد *** ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادا إليهم وسر على *** طريق الهدى والفقر تصبح واصلا
وأحي بذكراهم سراك إذا ونت *** ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها ** أمامك ورد الوصل فابغ المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به *** فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحي على واد الأراك فقل به *** عساك تراهم فيه إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عند معرف ال *** أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن *** تفت ، فمتى ؟ يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن بقربهم *** منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا *** وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
فدعها رسوما دارسات فما بها *** مقيل فجاوزها فليست منازلا
رسوم عفت يفنى بها الخلق كم بها *** قتيل ؟ وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي *** عليه سرى وفد المحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة *** فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي *** ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أول نقدة من أثمان المحبة : بذل الروح فما للمفلس الجبان البخيل وسومها ؟
بدم المحب يباع وصلهم *** فمن الذي يبتاع بالثمن
تالله ما هزلت فيستامها المفلسون ، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون ، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد ، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس . فتأخر البطالون . وقام المحبون ينظرون : أيهم يصلح أن يكون ثمنا ؟ فدارت السلعة بينهم . ووقعت في يد أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين .
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى . فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي . فتنوع المدعون في الشهود . فقيل : لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله .
فتأخر الخلق كلهم . وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه . فطولبوا بعدالة البينة بتزكية يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم .
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون ، فقيل لهم : إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم . فهلموا إلى بيعة إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .
فلما عرفوا عظمة المشتري ، وفضل الثمن ، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع : عرفوا قدر السلعة ، وأن لها شأنا . فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس . فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي ، من غير ثبوت خيار . وقالوا : والله لا نقيلك ولا نستقيلك .
فلما تم العقد وسلموا المبيع ، قيل لهم : مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت ، وأضعافها معا ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله .
إذا غرست شجرة المحبة في القلب ، وسقيت بماء الإخلاص ، ومتابعة الحبيب ، أثمرت أنواع الثمار . وآتت أكلها كل حين بإذن ربها . أصلها ثابت في قرار القلب . وفرعها متصل بسدرة المنتهى .
لا يزال سعي المحب صاعدا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .
الآداب والرقائق ؛ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ( ابن قيم الجوزية)
دار الكتاب العربي ؛ سنة النشر: 1416 / 1996م ( ص 9 ؛ ص 10 ؛ ص 11 ) .