[b]لمّا عزل" الفقهاء" النصوص عن سياقها التاريخي وقع بسبب ذلك خلط هائل دفع بالأمور في اتجاهات خاطئة . فآيات الحرب الواردة في سور القرآن الكريم لها ظروف تاريخية خاصة لا يجوز معها تعميمها في ظروف أخرى . فتفسير النص خارج سياقه يؤدي إلى صرف مراده إلى ما يخالف مراد الله , واستخدامه استخداما انتقائيا باقتطاعه من ظرفه وعزله عن مناسبته يحُول دون فهم واستنتاج المعاني المقصودة , ويؤدي إلى تلفيق معان جديدة تبعد بالآيات عن مقاصدها الشرعية . انظر الآيات :
" وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ " البقرة 190 – 194
وتلك آيات استثنائية نزلت في ظرف خاص وموجهة إلى النبي والمسلمين الأوائل خاصة دون غيرهم , إذ تُخاطب المهاجرين الأوائل الذين أُخرجوا من مكة , ووقع عليهم العدوان من المشركين وتعرضوا للفتنة , فقد نزلت سنة 7هجرية في عُمرة القضاء التي نصت عليها معاهدة صلح الحديبية , وفيها اتفق المسلمون ومشركو مكة على أن يرجع المسلمون- وكانوا قد أرادوا العمرة - ولا يدخلوا مكة في عامهم هذا - 6هجرية - نظير السماح لهم بذلك في العام المقبل . ولما حان موعدها ساورت المسلمين المخاوف والحرج من غدر قريش إذ كان عليهم ترك أسلحتهم غير سلاح المسافر , وخاصة أنهم في شهر حرام وبلد حرام لا يجوز فيهما قتال , فأنزل الله الآية لترفع الحرج عن المسلمين وتأذن لهم في قتال المشركين حتى لو كان في البلد الحرام والشهر الحرام , ومع ذلك تقرر الكف عن القتال بمجرد تحقيق هدف رد العدوان . كان ذلك في ظرف خاص ولا يجوز تفعيل النص بشكل مطلق في غير مناسبته .
والأمر بالقتال هنا- الآية 191- في سبيل الله , أي سبيل الحق والخير والعدل ورد عدوان المعتدي , مع النهي عن الاعتداء , أي هو نهي عن القتال لغير سبيل الله أو لغير رد العدوان .
" واقتلوهم حيث ثقفتموهم " ( الآية 191) والأمر هنا كما أسلفنا - بقتال مشركي قريش الذين أخرجوا المسلمين من مكة , وليس كل مشركي الأرض كما يزعم الفقيه السلطاني . والآية التالية مباشرة ( 192 ) تأمر المسلمين بالكف عن قتال هؤلاء المشركين إن انتهوا عن القتال . ولو كان الأمر بقتال الكفار عاما لكل زمان ومكان , لَما أمر الله بوقف القتال (إن انتهى المشركون) . وفي الآية 193 يكرر الله الأمر بوقف قتال المشركين إن انتهوا وأمسكوا عن القتال , وهو أمر قاطع يفند في جلاء مزاعم فقيه السلطان بقتال كل كفار الأرض في كل زمان ومكان . وفي الآية 194 يؤكد الله الأمر برد عدوان المعتدي حتى لو كان في الأشهر الحرم , ومعلوم أن تحريم القتال في أشهر معلومة كان خاصا بالعرب الأوائل . ومن الطبيعي من حيث سياق الآيات أن يتحدث الله بعد ذلك في الآية 196عن إتمام العمرة التي حال مشركو قريش دون أداء المسلمين لها في سنة 6هجرية وتمكنوا من أدائها في العام التالي سنة 7هجرية . تلك آيات تنطق كل حروفها بالمناسبة الخاصة والاستثناء المطلق لموضوع القتال فيها . وتُعاود الآية 217 من نفس السورة - البقرة- تأكيد أن القتال في الأشهر الحرام أهون من الصد عن سبيل الله والطرد من المسجد الحرام وإخراج أهله منه . ونَشْرُ كلمة الله يكون بالحسنى , لا بالقهر والقتال , فالقتال شرعه الله للدفاع عن الحق والحقوق _أمر به اليهود والنصارىأ يضا- , تلك سبيل الله , واسمع إلي الآية 111 من سورة التوبة :" إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " التوبة 111 .
والمراد "بسبيل الله" في الآية هو سبيل الحق والعدالة ونفي الظلم لا القتال لقهر الناس على عقيدة ما , بل قتال الدفاع في كل الأديان عن الحقوق : الأرض والعرض والمال والنفس , ولو كان بمعنى قتال العدوان والتوسع الاستعماري بزعم نشر الإسلام إلى باقي الناس , لَما ذكرت الآية غير المسلمين من يهود ونصارى , إذ ذكر وعد الله في التوراة والإنجيل والقرآن .- واسمع الله يقول لنبيه : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } المزمل 10 . وحتى مع اليهود ناقضي العهود , يقول الله لنبيه : {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } المائدة 13,
وهذه السورة - المائدة - من أواخر ما نزل من القرآن الكريم , فترتيب نزولها هو112 , ولم ينزل بعدها غير سورتين فقط . ونزلت- على الأرجح - قرب نهاية السنة الحادية والعشرين من بداية البعثة النبوية , أي قبل وفاة النبي بسنتين تقريبا , أي في وقت استكمال الشكل النهائي لمبادئ الإسلام .
إن سر انتشار هذا الدين هو قدرته الذاتية على استدراج عقول الناس ونفوسهم , إذ يرونه فعالا يسوي بينهم ويضمن حقوقهم , وإدراكا من النبي لهذه الخاصية العجيبة , تراه يتحين الفرص لتهيئة هذه " المعايشة " , فبادر بعقد المعاهدات في السنة الأولى من الهجرة مع القبائل المجاورة للمدينة لتهيئة الفرصة لها كي تستكشف الإسلام دون أن تؤمر صراحة باعتناقه - إلى جانب هدف تحييدها فيما لو نشب قتال بين المسلمين وقريش .
وفي مدة السنتين - من صلح الحديبية في سنة 6هجرية إلى فتح مكة في سنة 8 هجرية - دخل في الإسلام عدد مساو تقريبا لمن دخلوا الإسلام منذ بدء دعوته وحتى صلح الحديبية ( أي عدد من أسلم في سنتين زاد على عدد من أسلم في 19 سنة : 13 سنة في مكة + 6 سنوات حتى صلح الحديبية ) وذلك لما تحقق ظرف المعايشة الطبيعية , وصد ق الله إذ وصف هذا الصلح بأنه فتح مبين ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ).
والآيات التي تتحدث عن القتال- بدءا بالإذن به ثم الأمر به وفرضه- ليس من بينها آية واحدة تفيد أن المراد به إجبار الناس على اعتناق عقيدة بعينها , بل يراد به مقابلة العدوان بمثله , والدفاع عن حرية العقيدة , وقتال من يُخرج المؤمنين من ديارهم :
"وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ " , " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ " البقرة 194 .
وإذا ما غابت مبررات القتال المذكورة , يأمرنا الله بأن نبر من لم يبادرنا بالحرب حتى وإن كان مخالفا لنا في الدين : " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" الممتحنة 8 بل هي الدعوة إلى السلام : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} "البقرة 208 . وكانت الجزية أحد خيارات ثلاثة كان يعرضها المسلمون على البلاد قبل فتحها- الإسلام أو القتال أو الجزية , وكون الجزية خيارا يبقي الناس مقابلها على دينهم وتمتعهم بحق المواطنة الكامل مع سائر المسلمين , ذلك دليل على عدم قهر الناس على اعتناق الإسلام , إذ بقى غير المسلم على دينه , وبذا تكون الجزية دليلا دامغا على عدم جواز قهر الناس على اعتناق الإسلام . والجزية تتيح فرصة المعايشة مع المسلمين وفقا لأصول دينهم , وبقاء أصحاب الديانات الأخرى في ديار الإسلام وبناؤهم دور عباداتهم , حتى في أوقات قوة وسيطرة دولة الإسلام , دليل على سقوط القول بالأمر بمقاتلة الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله .
-- وكل ما سلف ذكره واضح المعنى , لكنه معنَى يتعارض في عقل الفقيه السلطاني مع آيتين اثنتين وقف عندهما حائرا , وخلط بين معانيهما خلطا خطيرا كانت له عواقب وخيمة كما سيتم بيانه في حينه :وأول هاتين الآيتين هي الآية الخامسة من سورة التوبة " آية السيف" هكذا أسماها فقيه السلطة , وهي تقول :
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التوبة5.
والآية الثانية : (وهي الآية التاسعة والعشرون من نفس السورة سورة التوبة) , وتقول :
" قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ " التوبة 29 .
وفسر الفقيه الآية الأولى (الآية الخامسة من سورة التوبة) بأنها أمر إلهي عام وشامل للمسلمين في كل زمان ومكان للانقضاض على خلق الله لإرغامهم على الإسلام وإلا فهو الموت وضرب الأعناق . وهو تفسير يعارض في وضوح قِيَمِ الدين التي أوردها القرآن نفسه, ويقوض عالمية الإسلام وسماحته ويشوه دعوته الإنسانية إذ ينفر منه العقلاء وكل من يخشى على حريته .
وسورة التوبة مدنية وترتيب نزولها قبل الأخيرة فترتيبها 113, أي من آخر ما نزل به الوحي- فهي السورة قبل الأخيرة من القرآن .
وما أوقع فقيهنا في سوء الفهم- إن اقتصر الأمر على سوء الفهم لا سوء النية - هو جهله بإحدى سنن الله الفاعلة في مسيرة الأديان والدعوة إلى الله على مر الزمن , وهي سنته التي تقضى بإهلاك النفايات من الكفار المعاصرين للأنبياء ممن استعصوا على الإيمان. فنبي الله نوح أمَره الله بصنع سفينة لاستخلاص من آمن معه , وقضى الله بإغراق باقي المجتمع ممن لم تؤثِّر فيهم دعوة الهدى في الوقت الطويل الذي لبث فيه نوح في قومه . وكذلك قوم لوط أهلكهم الله , وكذلك عاد وثمود . فسُنة الله تقضي بالتخلص من نفاية الأمة ممن غلظت قلوبهم وسفهت أحلامهم ولا يؤثر فيها دعوات الخير والحق وعلِم الله أنهم غير مهتدين , فختم علي قلوبهم , وقد اضطلع اللهُ نفسُه بمهمة الإبادة هذه لعدم قدرة المؤمنين على استئصال شأفة الكفر بأنفسهم في أزمنة الدعوة لدين الله .
أما الآية الثانية (الآية التاسعة والعشرون من سورة التوبة) :
" قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ " .
فهذه الآية لا تتحدث عن مشركي مكة خاصة , فقد أوضحت الآية الخامسة من سورة التوبة شأنهم . ولكن الآية 29 تخص غير المؤمنين من آل الكتب المنزلة- كاليهود - ممن لا يؤمنون بها ولا يعملون بشرائعها , ومثل هؤلاء قد سبق وسرت عليهم سنة الله الفاعلة في مجتمعاتهم وأقوامهم الأولين . وفي صراعات المسلمين المستقبلية بفعل قانون دفع الناس بالناس , والاضطرار لخوض صراعات مسلحة مع مثل هؤلاء , يكون الأمر(بالقتال) لا (القتل) كما هو الحال مع مشركي قريش بمكة , ثم أخذ الجزية مع الإبقاء على الحياة لتتوفر فرصة المعايشة .وكانت سنة الله- بإبادة المكذبين - قد سرت علي بني إسرائيل الذين خرجوا مع موسى من مصر, بأربعين سنة يتيهون فيها في الصحراء للتخلص من الجيل الذي عاصر الدعوة , ذلك الجيل الشديد التعلق بالوثنية , الذي درج على أخلاقيات الاستعباد والذل ولا يصلح لتحمل تبعات الدين الجديد فهو جيل لم يتلق تدريبا إيمانيا كافيا على غرار التدريب الذي تلقاه مسلمو صدر الإسلام مثلا .
والله تعالى يعلن في جلاء ويكشف في وضوح عن سنته الفاعلة التي لا تتبدل في التعامل مع المشركين , كل المشركين ممن في قلوبهم مرض - أي ممن يستبعد إيمانهم - فوجبت سنة الله عليهم وهي الإهلاك: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ }إبراهيم13 .
وعندما اشتد خطر المنافقين في المدينة توعدهم الله بأخذهم بسنته الفاعلة بإهلاك مرضى القلوب ممن لا يُرجى إيمانهم :
" لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً " الاحزاب 60-62 .
والله يعلن عن سنته في إهلاك المختوم على قلوبهم يكشف هذه الحقيقة ويحذر من مغبتها في وقت مبكر (حوالي سنة 5 هجرية وقت نزول سورة الأحزاب ) فجاء التحذير لمن ؟ لمنافقي المدينة (ظرف وحالة خاصة) , بماذا : بالطرد من المدينة والقتل أينما ثقفوا (حالة خاصة) , والله يعلن أن تلك هي سنته الماضية فيمن سبق .
ثم كان تفعيل هذا القانون لما قضى الله بالتخلص من نفاية المجتمع المكي- قبيل نهاية وقت البعثة النبوية عام 9هجرية - كما أسلفنا - تحقيقا لسنة الله , فأمر اللهُ النبيَّ بالقضاء عليهم , فقط في هذا الظرف , وفيه فقط , فتولى النبي عن الله مهمة التخلص من الميئوس من إيمانهم في الفترة الإيمانية المبكرة , مثلما أهلك الله بنفسه الميئوس من إيمانهم أيام عاد وثمود ونوح ولوط , تلك سنة الله , ولن تجد لسنة الله تبديلا , وأكرر أن ذلك أمر استثنائي لا يجوز في غير ظرفه , ولا يجوز لغير نبي الدعوة , ولا يجوز لغير المؤمنين الأوائل ممن عاصروا الدعوة الأولى ونبيها , وهو أمر ينفي مناصبة غير المسلمين العداوة , أو فرض الإسلام عنوة على غير المسلمين .
وسُنَّة الله القاضية بإهلاك النفايات ممن لم يؤمنوا في المجتمع المؤمن الوليد , يسبقها استخلاص لعناصر هذا المجتمع المؤمن من مجتمع الكفر لكي يكون الدين كله لله , فأيام نوح كانت مفارقة المؤمنين لمجتمع الكفر بغرق الكفار, كما هرب مؤمنو موسى من مجتمع الكفر ثم غادرهم الكفار بالغرق في البحر , كما تمت هذه المغادرة أيام لوط بتدمير مجتمع الكفر, كذلك هاجر المسلمون مرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة .وكانت تلك الهجرات هي الخطوة الأولى لاستصفاء عناصر المجتمع المؤمن وعزلها عن مجتمع الكفر والنجاة بها إلى دار إيمان يكون فيها الدين كله لله . وإبادة عناصر الكفر في مجتمع النبوة الوليد - أي نبوة - مسألة ضرورية فهي بمثابة التعقيم لهذا المجتمع , مثلما يتم تطعيم الرضيع مرة واحدة بأمصال تقيه شر الداء طيلة حياته .والمتأمل في سورة التوبة يرى أنها تمهل الكفار أربعة أشهر قبل انتهاء صلاحية سريان المعاهدات المبرمة معهم , فلا غدر من المسلمين , بل إنذار وإمهال للمشركين المُصِرِّين على كفرهم لمغادرة المجتمع الجديد إذ سقط حقهم في المواطنة .
والأمر بقتل كفار المجتمع المسلم الوليد هو إجراء (لتهجير) الكفار منه , وإخراجهم كما أخرجوا المسلمين أول مرة , وهي دعوة لطرد ونفي جماعات الشرك وفلوله ممن لا يُرْجَى إيمانهم وممن ختم الله على قلوبهم إذ ظلت الدعوة بين ظهرانيهم نحو 22 سنة وهم على شركهم . والله يقول : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}التوبة6 , فقتله ليس غاية بل المراد هو قصر مجتمع الإيمان على المؤمنين وتطهير مَحْضَن الدين من الشرك .
ومن العجيب أن الفقيه لم يلاحظ أن الله يأمر بتوفير الحماية للمشرك المستجير حتى يبلغ مأمنه وذلك في الآية التالية مباشرة للآية الموصوفة بأنها آية السيف , (التوبة 6) أي الآية التي يظن أنها رخصته في ضرب أعناق كل من لا يدين بدينه في كل زمان ومكان .
وقبل الأمر بقتل كفار مكة كان الله قد أعلن وكشف عن سنته في تعقيم المجتمع الإيماني وقص في قرآنه كيف سرت هذه السنة على الأولين , وقبل إعمالها في مكة , سبق وتوعد بها منافقي المدينة , فالأمر واضح لا غدر فيه. والأمر الشديد الأهمية الذي يجدر ملاحظته - لأنه يحدد بدقة اللبس الذي داخل مفهوم " الجهاد" كما صوره الفقيه السلطاني : وهو أن موقف المسلمين والإسلام من غير المسلمين قرب نهاية مدة البعثة النبوية - سنة 9 هجرية - كان ذا شِقَّين حددتهما الآيتان 5 , 29 من سورة التوبة وترتيبها تنزيلا 113 , أي هي السورة قبل الأخيرة من حيث ترتيب التنزيل قبل انقطاع الوحي من السماء :
أولهما يخص المشركين الذين وصفهم القرآن بأنهم نجس وأمر بمنعهم من الحج " َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا " الآية 28 التوبة ,
وأوجب إمهالهم مدة أربعة أشهر: " فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ " 5التوبة , يرحلون بعدها عن أرض المجتمع الإسلامي , وأوجب قتل من يبقى منهم فيها بعد ذلك كما أسلفنا . وذلك لا يتعارض مع عفو النبي عن مشركي مكة بعد فتحها – الطلقاء - لأن ذلك كان في وقت يُرجى فيه إسلام الكثيرين منهم لدى مخالطتهم للمؤمنين , وهو ما تحقق فعلا , ولأن عملية استخلاص واستصفاء العناصر التي ستعتنق الإسلام لم تكن قد انتهت فعلا .والشق الثاني يخص مَن على غير الجادة من أهل الكتاب اليهود والنصارى وقد وصفهم الله بأنهم مَن أوتوا الكتاب ولكنهم لا يؤمنون بالله ولا اليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرم الله - كما جاء في سورة التوبة 29 - وهؤلاء مع أنهم لا يعملون بما في كتابيهما , إلا أنهم أرجَى من المشرك الذي لا كتاب له , لذا كان الأمر بقتالهم - والقتال هنا صيغة يُفهم منها تبادل القتال بين طرفين وهو غير الأمر" بقتل" المشركين في الآية 5 . والقتال بين المسلمين وبين غير المؤمنين ممن أوتوا الكتاب - الآية 29- هو قتال الفتوح الإسلامية التي ستفرضها ظروف العصر وفقا لاستخدام فائض القوة وتجري وفقا لموازين القوى والصراعات الدولية في وقت فتوة دولة المسلمين , ولا شأن لها بأي حال بالدين أو نشره . وهو قتال يتوقف فور دفع الجزية , والجزية تعطي حق المواطنة لدافعها وتهئ له فرصة المعايشة كما أسلفنا , لأن من له كتاب أقرب للإيمان من المشرك الذي لا كتاب له , أو هو أي قتال ينشب بين المسلمين وأهل الكتاب - يهود أو نصارى - في أيّة حروب مستقبلية مما تفرضه طبيعة الناس وصدام المصالح وفقا لسنة الله في خلقه والتي وصفها في كتابه العزيز بقوله : " وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً " الحج 40 . والفقيه السلطاني لم يفرِّق بين المشركين - المختوم على قلوبهم ممن أسند الله إلى رسوله طردهم من المجتمع المسلم الوليد - وبين أهل الكتاب كما أسلفنا , واستند إلى الآية 5 من سورة التوبة التي أسماها آية السيف , وأوجب قتل أهل الكتاب - يهودا كانوا أم نصارى- ظنا منه أن ذلك هو "الجهاد" الذي كتبه الله على المسلمين , في حين أن القتال في سبيل الله - سبيل الحق والعدل والمساواة والحرية - مكتوب أيضا على أهل الكتاب أنفسهم , ذلك ما يقوله الله وفي نفس السورة - التوبة الآية 111, واسمعه يقول : {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }التوبة111 .
ولذلك فإن متابعة الآيات 5 , 29, 111, من سورة التوبة تكشف بيسر التزييف الذي مارسه الفقيه السلطاني كي يضع الأمة في حالة استنفار دائمة وقتال مستمر فذلك هو فهمه للجهاد الذي يتيح في واقع الأمر الأموال لسيده سلطان المسلمين وخليفتهم .
ولنا أن نتساءل ماذا يقول الفقيه القائل بآية السيف لمَّا يسمع قول الله:{ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}الممتحنة8 , وترتيب تنزيلها 91, ونزلت بعد سورة البقرة , أي أن سورة الممتحنة نزلت في العهد المدني - وعلى الأرجح - قرب اكتمال البعثة النبوية بعد أن تبين الرشد من الغي وتلقى المسلمون التعليمات النهائية بخصوص التعامل مع المشركين ومع أهل الكتاب . ويُفهم من الآية أن البِر والقسط يكون لمن لم يقاتلوا المسلمين في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم .وقتال المسلمين في الدين وإخراجهم من ديارهم جريمتان ارتكبهما مشركو مكة وهما موجبتان لاختصاصهم بالأمر بقتلهم كما جاء في الآية 5 من سورة التوبة .وفقيه السلطان مسكون بالقدرات السحرية لآية السيف - فلم يكتف بزعم أنها نسخت من كلام الله 124 آية وهي الآيات التي تدعو للسلم والمهادنة والصفح عن الكفار , بل ساقه ضلاله فقال بما لا يقول به غير خفيف العقل , فقال بأن آية السيف قد ألغت صفة الله بأنه أحكم الحاكمين! إذ نسخت الآيةَ "أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" التين8 - تعالى الله علوا كبيرا عما يصفون[/b]