تابع الاية الثالثة
والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفد، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جل جلاله
كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيز على الله سبحانه وتعالى،
إذا أراد أن يحققه لك.
واقرأ قول الشاعر:
حسب نفسي عزا بأنني عبد *** يحتفي بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكن *** أنا ألقى متى وأين أحب
إذن: عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد.. ومنعه العطاء يستوجب الحمد.
ووجود
الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد.. فالله يستحق الحمد
لذاته، ولولا عدل الله لبغى الناس في الارض وظلموا، ولكن يد الله تبارك
وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة.. فيخاف الناس الظلم.. وكل من أفلت من
عقاب الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده سيلقى الله في الاخرة ليوفيه
حسابه.. وهذا يوجب الحمد.. أن يعرف المظلوم أنه سينال جزاءه فتهدأ نفسه
ويطمئن قلبه ان هناك يوما سيرى فيه ظالمه وهو يعذب في النار.. فلا تصيبه
الحسرة، ويخف احساسه بمرارة الظلم حين يعرف ان الله قائم على كونه لن يفلت
من عدله أحد.
وعندما نقول: {الحمد للَّهِ} فنحن نعبر عن انفعالات
متعددة.. وهي في مجموعها تحمل العبودية والحب والثناء والشكر والعرفان..
وكثير من الانفعالات التي تملأ النفس عندما تقول: (الحمد لله) كلها تحمل
الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه.. هذه الانفعالات تأتي من النفس
وتستقر في القلب.. ثم تفيض من الجوارح على الكون كله.
فالحمد ليس ألفاظا
تردد باللسان، ولكنها تمر أولا على العقل ليعي معنى النعم.. ثم بعد ذلك
تستقر في القلب فينفعل بها.. وتنتقل الي الجوارح فأقوم واصلي لله شاكرا
ويهتز جسدي كله، وتفيض الدمعة من عيني.. وينتقل هذا الانفعال كله الي من
حولي.
ونفسر ذلك قليلا.. هب انني في أزمة أو كرب أو شيء سيؤدي الي
فضيحة.. وجاءني من يفرج كربي فيعطيني مالا أو يفتح لي طريقا.. أول شيء انني
سأعقل هذا الجميل فأقول انه يستحق الشكر.. ثم ينزل هذا المعنى الي قلبي
فيهتز القلب الي صانع هذا الجميل.. ثم تنفعل جوارحي لأترجم هذه العاطفة إلي
عمل يرضيه على جميل صنعه. ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه فيسارعون إلي
الالتجاء اليه.. فتتسع دائرة الحمد وتنزل النعم على الناس.. فيمرون بنفس ما
حدث لي فتتسع دائرة الشكر والحمد.
والحمد لله تعطينا المزيد من نعم
الله مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن
شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
[إبراهيم: 7] وهكذا نعرف ان الشكر على النعمة يعطينا مزيدا من النعمة..
فنشكر عليها فتعطينا المزيد وهكذا يظل الحمد دائماً والنعمة دائمة.. اننا
لو استعرضنا حياتنا كلها فكل حركة فيها تقتضي الحمد، عندما ننام ويأخذ الله
سبحانه وتعالى أرواحنا، ثم يردها الينا عندما نستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد،
فالله سبحانه وتعالى يقول: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي
لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت
وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] وهكذا فإن مجرد استيقاظنا من النوم،
وان الله سبحانه وتعالى رد علينا أرواحنا، وهذا الرد يستوجب الحمد، فإذا
قمنا من السرير فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعطينا القدرة على الحركة،
ولولا عطاؤه ما استطعنا ان نقوم.. وهذا يستوجب الحمد.. فإذا تناولنا
افطارنا فالله هيأ لنا طعاما من فضله، فهو الذي خلقه، وهو الذي انبته، وهو
الذي زرقنا به، وهذا يستوجب الحمد.